الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد ابن عاشور: قال رحمه الله:وإنَّما قال: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره، ولأنّ في الابتلاء أسرارًا عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه.وعُقب هذا الملام بقوله: {ولقد عفا عنكم} تسكينًا لخواطرهم، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43]، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو، وفيه أيضا دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفًا من غضب الله تعالى.وفي تذييله بقوله: {والله ذو فضل على المؤمنين} تأكيد ما اقتضاه قوله: {ولقد عفا عنكم} والظاهر أنه عفو لأجل التأويل، فلا يحتاج إلى التَّوبة، ويجوز أن يكون عفوًا بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان. اهـ..من فوائد صاحب المنار: قال رحمه الله:قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} مَعْنَاهُ إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقْبَلُوا دَعْوَتَهُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْخَيْرِ كَأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ دَعَاكُمْ مَرْضَى الْقُلُوبِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، وَتَوْسِيطِ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَئِيسِهِمْ (أَبِي سُفْيَانَ) لِيَطْلُبَ لَكُمْ مِنْهُ الأمان، أَوِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَآمَنُوا بِأَفْوَاهِهِمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَذَلُوكُمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَرْبِ، ثُمَّ دَعَوْكُمْ بَعْدَهَا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى دِينِكُمْ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ ابْتِدَاءً أَوِ اسْتِدْرَاجًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنْ طَلَبْتُمُ الأمان مِنْهُمْ وَكَانَتْ حَالُكُمْ مَعَهُمْ حَالَ الْمَغْلُوبِ مَعَ الْغَالِبِ يَتَوَلَّوْا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا مَعَهُمْ أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُخْضِعُوكُمْ لِسُلْطَانِهِمْ وَامْتِهَانِكُمْ بَيْنَهُمْ وَحِرْمَانِكُمْ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنِ اسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِالسِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ، وَمِنْ تَمْكِينِ دِينِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا، أَمَّا الْآخَرُ فِيمَا يَمَسُّكُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ الْمُرْتَدِّينَ مَعَ الْحِرْمَانِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ الْمُتَّقِينَ.وَذِكْرُ بَعْضِهِمْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ، وَقَدْ تَبِعُوا فِيهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ. وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ وَحِزْبُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ دَعَوْا إِلَى الِارْتِدَادِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا.{بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ} فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُفَكِّرُوا فِي وِلَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَحِزْبِهِ، وَلَا عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وَشِيعَتِهِ، وَلَا أَنْ تُصْغُوا لِإِغْوَاءِ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَكُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الْمَوْلَى الْقَادِرُ عَلَى نَصْرِكُمْ إِذَا هُوَ تَوَلَّى شُئُونَكُمْ بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ الَّتِي وَعَدَكُمْ بِهَا فِي قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [8: 40] وَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ مَضَتْ بأنه يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَيَخْذُلُ مَنْ يُنَاوِئُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أمثالهَا {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [47: 10، 11] وَمِنْ هُنَا أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَوَابَهُ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ إِذْ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُجَابَ اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ كَأَنَّهُ تعالى يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ هَذَا الْمُنْبِئِ عَنْ سُنَّتِهِ، وَبِتَذْكِيرِ الرَّسُولِ لَهُمْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ مَوْلَاكُمْ وَنَاصِرُكُمْ إِذَا قُمْتُمْ بِمَا شَرَطَهُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ مِنَ الإيمان وَالصَّلَاحِ وَنَصْرِ الْحَقِّ فَهَلْ تَحْتَاجُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ؟ فَإِنَّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ النَّاصِرِ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْقُوَى وَمَا تَيَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ.وَإِنَّمَا اللهُ هُوَ الَّذِي آتَاهُمُ الْقُوَى وَسَخَّرَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ، وَهُوَ الْقَادِرُ بِذَاتِهِ عَلَى نَصْرِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ بِإِيتَائِهِمْ أَفْضَلَ مَا يُؤْتِي غَيْرَهُمْ مِنَ الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالْعَزِيمَةِ وَإِحْكَامِ الرَّأْيِ وَإِقَامَةِ السُّنَنِ وَالتَّوْفِيقِ لِلْأَسْبَابِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا. وَيَقُولُ الْمُفَسِّرُونَ: فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ اسْمُ التَّفْضِيلِ (خَيْرُ) فِيهَا عَلَى غَيْرِ بَابِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي أُولَئِكَ النَّاصِرِينَ الَّذِينَ يُعَرِّضُ بِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، فَإِنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّصْرِ، يَعْنِي أَنَّ نَصْرَ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ نَصْرِ الْكَافِرِينَ لِمَنْ يَنْصُرُونَهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ.{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} الْمُتَبَادِرُ لَنَا أَنَّ الْآيَةَ تَعْلِيلٌ أَوْ تَصْوِيرٌ لِكَوْنِهِ تعالى خَيْرُ النَّاصِرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ، مُبَيِّنَةٌ لِبَعْضِ وُجُوهِهِ تَبْيِينًا يُقَبِّحُ لَهُمُ الشِّرْكَ وَيَزِيدُهُمْ حُبًّا فِي الإيمان، وَبَيَانُهُ أنه سَيُحَكِّمُ فِي أَعْدَائِهِمُ الْمُشْرِكِينَ سُنَّتَهُ الْعَادِلَةَ، وَهِيَ أنه يُلْقِي فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ- بِضَمِّ الْعَيْنِ- وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَبِسُكُونِهَا وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ، وَهُوَ شِدَّةُ الْخَوْفِ الَّتِي تَمْلَأُ الْقَلْبَ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ بِاللهِ أَصْنَامًا وَمَعْبُودَاتٍ لَمْ يُنَزِّلْ بِهَا سُلْطَانًا، أَيْ لَمْ يُقِمْ بُرْهَانًا مِنَ الْعَقْلِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا زَعَمُوا مِنْ أُلُوهِيَّتِهَا وَكَوْنِهَا وَاسِطَةً بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّمَا قَلَّدُوا فِي اتِّخَاذِهَا وَاعْتِقَادِهَا آبَاءَهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ فِي دِينِهِ، وَلَا مُتَّبِعٍ لِلدَّلِيلِ فِي اعْتِقَادِهِ فَهُوَ دَائِمًا عُرْضَةٌ لِاضْطِرَابِ الْقَلْبِ وَاتِّبَاعٍ خَطَرَاتِ الْوَهْمِ، يَعُدُّ الْوَسْوَاسَ أَسْبَابًا وَيَرَى الْهَوَاجِسَ مُؤَثِّرَاتٍ وَعِلَلًا قِيَاسًا عَلَى اتِّخَاذِهِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْلِيَاءَ وَجَعْلِهِمْ وَسَائِطَ عِنْدَ اللهِ وَشُفَعَاءَ، وَاعْتِيَادِهِ بِذَلِكَ أَنْ يَرْجُوَ مَا لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ، وَيَخَافُ مَا لَا يُخَافُ مِنْهُ ضَيْرٌ، فَالْإِشْرَاكُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا طَبِيعِيًّا لِوُقُوعِ الرُّعْبِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يُسْنِدُهُ إِلَى نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ السَّبَبَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا لِيَكُونَ بُرْهَانًا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَسُوءِ أَثَرِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الْمُخْتَارُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْوَعِيدَ فِيهَا عَامًّا وَلَيْسَ كُلُّ الْكُفْرِ يُثِيرُ الرُّعْبَ بِطَبِيعَتِهِ، وَإِنَّمَا تِلْكَ طَبِيعَةُ الشِّرْكِ، وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ تَأْثِيرًا غَيْبِيًّا وَرَاءَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَسْبَابِ.وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ قوله تعالى: {سَنُلْقِي} وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْجَزَهُ اللهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي أَوَّلِ الْحَرْبِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا تَقْدِيرٍ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا عَقِبَ الْقِتَالِ وَانْصِرَافِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْوَعْدَ أُنْجِزَ فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، إِذْ أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنْ أُحُدٍ أَنْ يَرْجِعُوا لِاسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَوْقَعَ اللهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ لَمَّا قَالَ لَهُمْ مَعْبَدٌ مَا قَالَ (رَاجِعْ ص88 مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ).قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ:(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ خَاصٌّ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَلَوْ كَانَ عَامًّا لَشَمَلَ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ- وَلَمْ يَكُنِ الْكُفَّارُ فِيهَا مَرْعُوبِينَ، بَلْ كَانُوا مُسْتَمِيتِينَ وَكَذَلِكَ نَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَافِرِينَ قَدْ حَارَبُوا وَلَمْ يُصِبْهُمُ الرُّعْبُ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ مُفَسِّرُنَا الْجَلَالُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.(والْوَجْهُ الثَّانِي) أَنَّ الْآيَةَ بَيَانٌ لِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ عَامَّةٍ وَهُوَ الْحَقُّ، وَبَيَانُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ ولَفْظِ الْكَافِرِينَ وهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَأَمَّا أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي مَرْتَبَةٍ مِنَ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ قَدْ صَدَّقَهَا الْعَمَلُ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بَذْلُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي سَبِيلِ الإيمان، الَّذِينَ عَاتَبَهُمُ اللهُ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْهَفْوَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنَ الْآيَاتِ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الْكَافِرُونَ فَهُمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإيمان، وَأُقِيمَ لَهُمْ عَلَى الدَّعْوَةِ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، فَجَحَدُوا وَعَانَدُوا وَكَابَرُوا الْحَقَّ، وَآثَرُوا مُقَارَعَةَ الدَّاعِي وَمَنِ اسْتَجَابَ لَهُ بِالسَّيْفِ، وَقَعَدُوا لَهُ وَلَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِذَا نَظَرْنَا فِي شِرْكِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ، وَفِي حَالِهِمْ مَعَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ نَجِدُ أَنَّ شَأْنَهُمْ مَعَهُمْ كَشَأْنِ مَنْ يَرَى نُورَ الْحَقِّ مَعَ خَصْمِهِ فَيَحْمِلُهُ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ عَلَى مُجَاحَدَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ، يَرْتَابُ فِيمَا هُوَ فِيهِ وَيَتَزَلْزَلُ، فَإِذَا شَاهَدَ الَّذِينَ دَعَوْهُ ثَابِتِينَ مُطْمَئِنِّينَ يَعْظُمُ ارْتِيَابُهُ وَيَهَابُ خَصْمَهُ حَتَّى يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ رُعْبًا مِنْهُمْ. هَذَا هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، كَأَنَّهُ تعالى يَقُولُ: هَذِهِ هِيَ الطَّبِيعَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ، إِذَا قَاوَمُوا الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَلَا تُبَالُوا بِقَوْلِ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِمْ.قَالَ: بِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: مَا بَالُنَا نَجِدُ الرُّعْبَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ؟ فَإِنَّ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ مُسْلِمِينَ قَدْ يَكُونُونَ عَلَى غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذَا الْوَعْدِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْإِذْعَانِ وَالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَتَمَنِّي الْمَوْتِ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ، فَمَعْنَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا رُعْبُ الْمُشْرِكِينَ مُرْتَبِطٌ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الْآثَارِ، فَحَالُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ قَدِ انْصَرَفُوا عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الإسلام مِنَ الْحَقِّ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمْ مِنَ الإيمان وَالصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ، فَالْقُرْآنُ بَاقٍ عَلَى وَعْدِهِ؟، وَلَكِنْ هَاتِ لَنَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَنْطِقُ إِيمَانُهُمْ عَلَى آيَاتِهِ وَلَكَ مِنْ إِنْجَازِ وَعْدِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مَا تَشَاءُ. وَتَلَا قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [24: 55] الْآيَةَ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِشْرَاكُ سَبَبًا لِلرُّعْبِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي رَبَطَ اللهُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ كَالشُّرْبِ لِلرِّيِّ وَالْأَكْلِ لِلشِّبَعِ، فَمَنْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْحَقُّ تَزَلْزَلَّ الْبَاطِلُ فِي نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ.أَقُولُ: وَمِنْ تَمَامِ التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا يَقَعُ فِيهَا الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، كَالْوَقَائِعِ الَّتِي يُشْرَبُ فِيهَا الْمَرْءُ وَلَا يَرْوَى لِعَارِضٍ مَرَضِيٍّ، فَسُنَنُ الِاجْتِمَاعِ كَسُنَنِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ لَهَا عَوَارِضُ وَشُرُوطٌ وَمَوَانِعُ.{وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} أَيْ هِيَ مَكَانُهُمِ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ فِي الدُّنْيَا وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أَيْ وَالنَّارُ الَّتِي يَأْوُونَ إِلَيْهَا بِئْسَ الْمَثْوَى وَالْمَقَامِ لَهُمْ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجُحُودِ وَمُعَانَدَةِ الْحَقِّ وَمُقَاوَمَةِ أَهْلِهِ، وَظُلْمِ النَّاسِ بِسُوءِ الْمُعَامَلَةِ.{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لِمَا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ- وَقَدْ أُصِيبُوا بِمَا أُصِيبُوا يَوْمَ أُحُدٍ- قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللهُ النَّصْرَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} الْآيَةَ. وَنَقُولُ: نَعَمْ إِنَّ النَّاسَ قَالُوا ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [3: 165] وَسَيَأْتِي. وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ مَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ وَمَا قِيلَ فِيهَا.الْوَعْدُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ يَحْتَمِلُ أن يكون الْمُرَادُ بِهِ مَا تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْرِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصْرِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَعْدُ النَّبِيِّ لَهُمْ عِنْدَ تَعْبِئَتِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرُوِيَ فِيهِ عَنِ السُّدِّيِّ أنه قَالَ: لَمَّا بَرَزَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ فَإِنَّا لَنْ نَزَالَ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا خُوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَامَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللهَ يُعَجِّلُنَا بِسُيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ وَيُعَجِّلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يُعَجِّلُهُ اللهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُعَجِّلَكَ اللهُ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ أَوْ يُعَجِّلُنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ وَالرَّحِمَ يَا ابْنَ عَمٍّ. فَتَرَكَهُ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَعَلِيٍّ أَصْحَابُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وَحَمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ، فَلَمَّا رأى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ- حَمَلَ فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ فَانْقَمَعَ، فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَلَمَّا رأى خَالِدٌ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رأى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ تَنَادَوْا فَشَدُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. اهـ.أَيْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعِينَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُفَصَّلَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هُنَا رِوَايَةَ السُّدِّيِّ بِطُولِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلرُّمَاةِ: فَإِنَّا لَا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الرُّمَاةَ لَمْ يَعْصُوا كُلُّهُمْ وَإِنَّمَا أُولَئِكَ بَعْضُ عَامَّتِهِمْ، وَأَمَّا الْخَاصَّةُ الرَّاسِخُونَ فِي الإيمان الْعَارِفُونَ بِالْوَاجِبِ فَقَدْ ثَبَتُوا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِوَعْدِ اللهِ هُنَا مَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ مَا قَالَ لِلرُّمَاةِ عَمَلًا بِالْقُرْآنِ وَتَأْوِيلًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ تعالى قَرَنَ الْوَعْدَ فِيهِ بِشُرُوطٍ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَالثَّبَاتِ.فَمُلَخَّصُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ هَكَذَا وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ بِالنَّصْرِ حَتَّى فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أَيِ الْمُشْرِكِينَ أَيْ تَقْتُلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا بِإِذْنِهِ تعالى أَيْ بِعِنَايَتِهِ وَتَأْيِيدِهِ لَكُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ضَعُفْتُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، فَلَمْ تَقْوَوْا عَلَى حَبْسِ أَنْفُسِكُمْ عَنِ الْغَنِيمَةِ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر فَقَالَ بَعْضُكُمْ مَا بَقَاؤُنَا هُنَا وَقَدِ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ؟، وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَا نُخَالِفُ أَمْرَ الرَّسُولِ وَعَصَيْتُمْ رَسُولَكُمْ وَقَائِدَكُمْ بِتَرْكِ أَكْثَرِ الرُّمَاةِ لِلْمَكَانِ الَّذِي أَقَامَهُمْ فِيهِ يَحْمُونَ ظُهُورَكُمْ بِنَضْحِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبْلِ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَصَبَرْتُمْ عَلَى الضَّرَّاءِ وَلَمْ تَصْبِرُوا فِي السَّرَّاءِ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا كَالَّذِينَ تَرَكُوا مَكَانَهُمْ وَذَهَبُوا وَرَاءَ الْغَنِيمَةِ لِيُصِيبُوا مِنْهَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ كَالَّذِينَ ثَبَتُوا مِنَ الرُّمَاةِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُمْ نَحْوُ عَشَرَةٍ وَكَانَ الرُّمَاةُ خَمْسِينَ رَجُلًا، وَالَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ ثَلَاثُونَ رَجُلًا، أَيْ صَدَقَكُمْ وَعْدَهُ وَنَصَرَكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَكَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا النَّصْرُ إِلَى أَنْ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ، فَعِنْدَمَا وَصَلْتُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ لَمْ تَعُودُوا مُسْتَحِقِّينَ لِهَذِهِ الْعِنَايَةِ لِمُخَالَفَتِكُمْ لِسُنَّتِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ أَهْلَ الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ؛ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ حَتَّى لِلْغَايَةِ وإِذَا فِي قوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} لَيْسَتْ لِلشَّرْطِ وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْحِينِ وَالْوَقْتِ. هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:أَنَّهَا لِلشَّرْطِ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مَنَعَكُمْ نَصْرَهُ أَوْ نَحْوَهُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي حَذْفِ الْجَوَابِ هُنَا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هِيَ أَنْ تَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا حَيْثُ يُنْتَظَرُ الْجَوَابُ بِكُلِّ شَغَفٍ وَلَهَفٍ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَقْدِيرَهُ: امْتَحَنَكُمْ بِالْإِدَالَةِ مِنْكُمْ لِيُمَحِّصَكُمْ وَيُمَيِّزُ الْمُخْلِصِينَ وَالصَّادِقِينَ مِنْكُمْ. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وَأَبُو مُسْلِمٍ قَدْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هِيَ جَوَابُ إِذَا ولَكِنَّ اقْتِرَانَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِثُمَّ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَنَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أنه بَعْدَ أَنْ صَدَقَكُمْ وَعْدَهُ فَكُنْتُمْ تَقْتُلُونَهُمْ بِإِذْنِهِ وَمَعُونَتِهِ قَتْلَ حَسٍّ وَاسْتِئْصَالٍ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بِفَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَعِصْيَانِكُمْ، وَحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ تَمَامِ النَّصْرِ لِيَمْتَحِنَكُمْ بِذَلِكَ، أَيْ لِيُعَامِلَكُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَمْتَحِنُ وَيَخْتَبِرُ، أَوْ لِأَجْلِ أن يكون ذَلِكَ ابْتِلَاءً وَاخْتِبَارًا لَكُمْ يُمَحِّصُكُمْ بِهِ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُزِيلُ بَيْنَ الْأَقْوِيَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ تعالى صَرْفَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نَفْسِهِ هُنَا بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ الْحَمِيدَةِ فِي تَرْبِيَتِهِمْ وَتَمْحِيصِهِمُ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلنَّصْرِ الْكَامِلِ وَالظَّفَرِ الشَّامِلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَضَافَ مَا أَصَابَهُمْ إِلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي السِّيَاقِ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [3: 165]، بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنِ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَالْعِصْيَانِ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُهُمْ إِسْنَادَ الصَّرْفِ إِلَيْهِ هُنَا مُشْكِلًا لاسيما عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ تَكَلَّفَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي تَخْرِيجِهِ تَكَلُّفًا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، إِذْ لَا إِشْكَالَ فِيهِ وَلَكِنَّ الْمَذَاهِبَ وَالِاصْطِلَاحَاتِ هِيَ الَّتِي تُوَلِّدُ لِأَصْحَابِهَا الْمُشْكِلَاتِ.قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} بِذَلِكَ التَّمْحِيصِ الَّذِي مَحَا أَثَرَ الذَّنْبِ مِنْ نُفُوسِكُمْ فَصِرْتُمْ كَأَنَّكُمْ لَمْ تَفْشَلُوا وَلَمْ تَتَنَازَعُوا وَلَمْ تَعْصُوا وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعَفْوِ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَمَا يَأْتِي وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَذَرُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ يُلِمُّ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ تَقْصِيرٍ يَهْبِطُ بِنُفُوسِ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَبْتَلِيَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُمَحِّصَ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَيَكُونُوا مِنَ الْمُخْلِصِينَ. اهـ.
|